جمال الشناوي
جمال الشناوي


جمال الشناوي يكتب: الدفاع  الإجباري

جمال الشناوي

الأربعاء، 02 ديسمبر 2020 - 04:32 م

«بعض الكلمات نارا تحرق أمم وشعوب، وتبدل الكلمة أحيانا مسار الحياة للفرد أو المجتمع مكتوبة كانت أو مسموعة، تسرى الكلمة بين الناس ويتفاعلون معها حسب أحلام أو أوهام»


فى السنوات الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالى يبدو أن من يرسم خريطه العالم  كان رجلا رومانسيا جدا ، لذا فهو وسم ثوراته بالألوان الزاهية وحتى الزهور ..ذلك الأب الروحي لنوع غير مألوف من الحروب الذاتية،سبقنا مسافات طويلة على مقياس التفكير ، ويبدو  أنه أكتشف أن حسم الصراع مع الاتحاد السوفيتي لن يكون بالصواريخ النووية ، أو بالقاذفات ولا الأساطيل ، فاندلاع حرب عسكرية بمفهومها التقليدي ، تعنى نهاية العالم ، ولن يكون هناك منتصرا وسيصبح الجميع ضحايا ومهزومون.

تساقطت أوروبا الشرقية ظهير حلف وارسو القوى الواحدة تلو الأخرى كقطع الدومينو  ..بفضل ثورات وغزوات على أجنحه الوجبات السريعة ، وسيل جارف من أدوات القوة الناعمة المبتكرة .. وسرعان ما تمددت الثورات الزاهية الوانها إلى موسكو  دره تاج  العدو التاريخي للغرب.

وسقطت موسكو أمام جحافل من القوى الناعمة ، ورقصت الشعوب السوفيتية على انغام الموسيقى الغربية ، وهى تهدم بلادها بفضل أنظمة حكم تجمدت وانعزلت عن مواطنيها ..ولم توفر لهم أيا من وسائل الدفاع الذاتي ..ورغم عراقة وثراء التراث السوفيتيفي الآداب والفنون ..إلا أن الجمود في نظام إدارة الدولة العظمى جعلها هشة في صد الهجمات ، وتخلفت عن تجهيز أساليب الدفاع المستقبلية.

الغريب والمثير أن تلك المعركة لم تتوقف وتكرر كل يوم، وإن اختلفت أشكالها وتجددت أدواتها، اعتمادا على إبهار المتلقي وإغراقه في دوامة التجديد والحداثة السياسية، فيؤمن به ويقاتل ويقتل من أجلها.

فى هذه الأيام تدور رحى معركة انتخابية للوصول إلى المقعد رقم واحد  في العالم ، والجلوس خلف المكتب البيضاوي فى البيت الأبيض مقر الحاكم الأمريكي، وعلى هامش هذه المعركة صدر كتاب هام لإثنين من كبار أساتذة السياسة وتحقق مؤلفاتهما المبيعات الأعلى فى الولايات المتحدة ..الكتاب الذى يحمل اسم "دعهم يأكلون تويتر" Let Them Eat Twitter يتحدث عن الانقسام الذى كان يعانى منه الحزب الجمهوري بين الحرس القديم الذي يخفض الضرائب للشركات الكبرى ويحمى مصالح الشركات الكبرى، والقوميين البيض ، لكن مع صعود دونالد ترامب ،رصد الكتاب ، حصول الأثرياء على كل ما يريدونه تقريبًا، بما في ذلك خفض ضريبي ضخم للشركات وأغنياء أمريكا .
وفى نفس الوقت استطاع الحزب الجهمورى إحداث ما يمكن وصفه بالتزاوج بين الطبقة الأكثر ثراءا والشركات الضخمة وبين الطبقات الوسطى عبر خطاب الانقسام والإلهاء، واستند المؤلفان جاكوب هاكر وبول بيرسون إلى تحليل محتوى حساب الرئيس ترامب على تويتر.

وأيا كانت دقه التحليل الذى يحمله الكتاب، لكنه يحمل مؤشرا شديد الأهمية على أهميه الكلمة، حتى لو جاءت عبر فضاء الكترونى أو مرسومه بالحبر على الورق.

الكلمة تنقل الفكرة، التى تكتسح وتمحو ثقافات شعوب عريقة، فقط عليك دراسة تناقضات هذا المجتمع أو تلك الدولة المستهدفة، ويمكن فقط نشر تساؤلات حول نقاط الخلاف بين الإنسان الأبيض أو الأسود، أو العربى والكردى والفارسى ، أو حتى داخل الدين الواحد ..السنى والشيعى، واجترار تاريخ مكتوب بعده وجهات نظر حول حروب الشام ومكة، التى أفرزت المذهب السنى والشيعى، وربما تجاهل الجميع تعاليم رسول الله نفسه أو فسرها كل فريق بما يخدم مصالحه، سالت شلالات الدم فى بلادنا بفعل الكلمة.

المستقبل يحمل إلينا كثير من المخاطر، فربما جاء يوما يتخلف فيه أبناء العائلة الواحدة حول الأب الظالم أو الأم المغلوب على أمرها.. الواقع يقول أننا تأخرنا كثيرا حتى أصبحنا رد فعل لهجمات الكلام، الذى يحرق كنار باطن قرص الشمس.

والسؤال كيف نستطيع حماية مجتمعاتنا من الكلام القاتل الذى يثير الخلافات ومعارك الدم؟.. هل نجلس وننتظر حملات تخطف الأبصار لنسير بفعلها كقطيع إلى الهاوية.

لا أعرف إذا كانت هناك فى بلادنا مراكز للتفكير ، والبحث فى العلوم الاجتماعية ، أم أن فيروس التجمد الذى ساد مصر لأربعه عقود ، قد أصابها أيضا.. أو فاز بكل الفرص فيها أنصاف الموهوبين أو أصحاب الحظوة من أقارب الكبار، فماتت تلك المراكز سريريا ، ولا يتبقى سوى نزع أجهزة التنفس عنها.. وتشيعها إلى مثواها الأخير، وتستقبل بلادنا وأجيالنا هجمات جديدة لن تتوقف ولا يمكن صدها، بصدور عارية من العلم والتفكير.

كل ما تشهده مصر من بناء يدعو  للتفاؤل بمستقبل بلادنا ، لكنه أيضا يلزمنا بالحرص والخوف ، والدفاع عن منجزات بلد لا يريد لها الكثيرون سوى أن تحى على حد الكفاف فى الثروة والعالم .. ولو راجعنا عشرات من حملات الدعاية المضادة التى صنعت فى أروقة أجهزة ومراكز تفكير جماعات مارقة أو دول تخشى نهوض مصر وقوتها المستقبلية ، تعكلف على كل إنجاز ..هناك من يدرس المشروع ، ويبحث فى تسفيه الجهود الجبارة ، ودفع أفراد الشعب إلى الانكفاء على الخاص ومصالحه الضيقة .."أنا استفدت إيه؟".

الحقيقة ان الرئيس السيسي يبدو أكثر مسئول فى بلادنا مهتم بذلك النوع من الحروب التى يتم تطويرها وتمر بمراحل وأجيال لتصنيعها ..فكثيرا ما حذر فى خطابات علنية من تلك المخاطر ، ولكن لا أحد من مراكز البحث والتفكير قد التقط طرف الخيط ليسابق الزمن إلى انتاج أفكار الدفاع المحلى ، وتحصين المجتمع من الاشتعال الذاتى بفضل قليل من العوامل المساعدة على الحريق.

مصر ورئيسها وشعبها، عُرضة لهجمات هدأت وتيرتها قليلا ، لكن موجات جديدة منها قادمة، وعلينا أن نعلم ونتعلم شكل تلك الهجمات ووسائلها التى ستكون بالتأكيد جديدة علينا، مثلما حدث في 2011.. وأقترح على الحكومة أن تشكل خلية أزمة لتطهير وتطوير المناهج فى المدارس والجامعات، والسير على خطى صناعة العقل القادر على فرز ما يسمع، وفهم ما هو آت.

وعلينا أن نقدم فى كتب المدراس ومذكرات الجامعات الحقيقة العارية لكيفية تشكيل جماعات الشقاق والتفريق السياسي التى صنعها الغرب فى صراع القوة مع الشرق، وحسنا فعلت مراكز البحث فى الدول الأجنبية بكشف وثائق تأسيس تلك الجماعات فى مصر وإيران وباكستان.. ومازلت أرى  ضرورة تدريس عده كتب صدرت فى الغرب تفضح عمالة وخيانة تلك الجماعات للدين وللأوطان.

الحقيقة لا أعرف دورا أهم لوزارة التعليم العالى والبحث العلمى، سوى البدء الفورى لإعادة الحياة لمراكز البحث والتفكير، وانتقاء العناصر التى تتميز بالكفاءة واستبعاد من وصل إلى مقعده عبر آليات الواسطة والمحسوبية.

ولا أفهم دورا للأحزاب السياسية أرقى من أحياء الأفكار عنه من حشد الأصوات، وكانت قديما بها من الباحثين ومراكز للدراسات ، تتولى تطوير الفكرة وابتكار وسائل تجديدها .

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة